شبكة قدس الإخبارية

 رافي بيريتس واختلاق هيكل سليمان

أحمد الدبش

في خضمّ عملية الاستيطان الصهيوني لفلسطين، وما تضمّنته من أعمال السلب، والاقتلاع التدريجي للشعب الفلسطيني من أرضه، جرى استخدام علم الآثار الإسرائيلي، بصورة فعّالة، لإقصاء الفلسطينيين عن تاريخهم، وانتحال تراثهم الثقافي. في هذا السياق، لعب علم الآثار التوراتي دورًا هامًا، وكان هدفه إيجاد علاقة بين دولة (إسرائيل) الحديثة والعصر (الإسرائيلي) القديم. ونتج عن ذلك أن الطبيعة التعددية لتاريخ فلسطين قد اختفت، فعليًا، من الوعي العام، واختفى معها، أيضًا، التاريخ، والتراث الثقافي العربي القديم. كما جرى انتحال العديد من المواقع الأثرية، والتاريخية، والأماكن المقدّسة في فلسطين، التي تشكِّل جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي الفلسطيني، بصفتها »توراتية« ، أو »يهودية«. في هذه الأثناء، تواصل (إسرائيل) مساعيها لتهويد وتهجير الذاكرة الفلسطينية. »إن الصراع حول الماضي إنما هو، دائمًا صراع من أجل الهيمنة، والسيطرة، في الحاضر«.

بذلك، ما فتئت (إسرائيل) تفتِّش عن شرعيتها في التاريخ القديم، مبرِّرة وجودها على أساس من الحق التاريخي والديني في فلسطين. ولتأكيد هذه الحقوق، التاريخية والدينية، قام الأثريون والباحثون بالتنقيب، في كل مكان، ورد اسمه في التوراة، و»التوراة في يد، والمجرفة في يد«. لم يكن البحث التاريخي والأثري في بلادنا فلسطين »مجرد إعادة بناء نزيه للماضي، ولكنه يتعلق بموضوع بالغ الأهمية، يتصل بالهوية، وميزان القوى المعاصرة«.

من حيث الجوهر، كثيرًا ما جرى إفراغ فلسطين، والتاريخ الفلسطيني من أي معنى حقيقي، حيث جرى»تجريدها« - فلسطين - من »الصفة التاريخية« كما يقول ملمن، أو»طمسها« -إسكاتها-، يقول وايتلام.  

في هذا الاطار تأتي التصريحات التي أدلي بها الحاخام الرئيسيّ لجيش العدو الصهيوني، الجنرال رافي بيريتس، الذي قال: »لا توجد للمسجد الأقصى أيّة أهمية بالنسبة للإسلام، وتساءل ماذا يفعل المسلمون في الحرم القدسيّ الشريف، الذي وصفه بأنه موقع الهيكل«. وأردف قائلاً: »هل تعرفون ماذا يعني المسجد الأقصى؟ ابنوا لي معبدًا في الأطراف. في أطراف ماذا؟ بالنسبة لمكة، أطراف شبه الجزيرة العربية. وأضاف إنّ قبة الصخرة ليست في الأطراف، ولذلك قلت إنّ هذا للتكريم. ولا يوجد لهذا الأمر أية أهمية دينية بالنسبة للإسلام، على حدّ زعمه. وزاد بيريتس قائلاً إنّهم، أيْ المُسلمين يفعلون ذلك، يُصّلون، في أطراف جبل الهيكل، ولكن إلى أين يسجدون؟ لمكة. ومؤخراتهم موجهة نحو جبل الهيكل. فما الذي يفعلونه على جبل الهيكل؟«.

ما لم يقوله الحاخام اللقيط، هو أين كان مكان هيكل سليمان؟! وما هي الأدلة التاريخية على وجود هيكل سليمان في فلسطين؟! وإذا كان علماء الآثار يبحثون عن أرشيف تاريخي للمرحلة السابقة لممالك داود وسليمان. فإنهم لم يعثروا على ذلك في فلسطين، علماً بأن الدول المجاورة قد قدمت أرشيفاً تاريخياً للمرحلة نفسها.

ففي السنوات الأخيرة، بدأ الإجماع على فكرة وجود المملكة الدوادية ـ السليمانية يتداعى تدريجياً، وإن كانت هذه الفكرة لا تزال تهيمن على خطاب الدراسات التوراتية، ومن يواليهم أصحاب الفكر الآسن حراسه من بعض الأكاديميين العرب. فقد أصدر ليتش، نقداً معتدلاً في حدته للاستخدام التاريخي للقصص التوراتية من منظور (أنثروبولوجي) بنيوى. والموضوع السائد في كتابه هو أن الكتاب العبري بوصفه نصاً مقدساً لا يوفر مصدراً تاريخياً ولا يعكس بالضرورة حقيقة عن الماضي. إنه يمثل عند ليتش، تبريراً للماضي يكشف عن عالم القصّاصين أكثر مما يكشف عن أية حقيقة تاريخية. ويطرح أسئلة مهمة جداً تثير شكوكاً حول التقديمات السائدة لحكمي داود وسليمان، وتُسائل تاريخية هذه المرحلة الهامة كما قُدمت في الموروثات الكتابية؛ أنا شخصياً أرى ذلك غير قابل للتصديق. ليس هناك أي دليل أثري على وجود هذين البطلين أو على وقوع أي من الأحداث التي ارتبطت بهما. ولو لا قداسة هذه القصص لكان وجودهما التاريخي مرفوضاً بالتأكيد.

مما قاله العالم روني ريك، في هذا الصدد: »آسف أن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا في هذه القصة«.

إن السمة الأكثر إدهاشاً في الخطاب - الكتابي - هي الصمت المطبق للسجل الآثاري حول ما يتعلق باللحظة التعريفية - فترة سليمان وداود- في تاريخ المنطقة. إنه الصمت الذي ساهم بشكل أساسي القوى ضمن مشروع، وتحديداً بسبب أنه أكد تحامل المؤرخين الكتابيين الذين قرروا أن كتابه التاريخ تعتمد على المصادر المكتوبة، كما صرح غاريبيي، وليتش، وفلاناغان، أن صمت السجل الآثاري هو الذي يطرح أكثر الأسئلة جدية حول تقديم إمبراطورية إسرائيلية بوصفها تعبيراً عن ثقافة حضارة نهضوية ويوحي بأننا نتعامل مع ماضٍ مخترع.

يشير مِلَّر، إلى أنه ليس هناك دليل على المملكة الداودية ـ السليمانية خارج التقاليد والموروثات الكتابية، المؤرخون الذين يتحدثون عن هذا الكيان إنما يفترضون مسبقاً صحة المعلومات التي يأخذونها من الكتاب العبري.

شكك عالم الآثار الإسرائيلي يسرائيل فنكلشتاين، من جامعة تل أبيب بوجود أي صلة لليهود بالقدس، جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة »جيروساليم ريبورت« الصهيونية، توضح فيه وجهة نظر فنكلشتاين، الذي أكد أنه لا يوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخي على وجود داود، هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له والذي سيأتي (الميا) من صلبه للإشراف على بناء الهيكل الثالث، مؤكداً أن شخصية داود كزعيم يحظى بتكريم كبير لأنه وحد مملكتي يهودا وإسرائيل هو مجرد وهم وخيال لم يكن لها وجود حقيقي. كما يؤكد فنكلشتاين أن وجود باني الهيكل وهو سليمان بن داود مشكوك فيه أيضاً.

يقول العلاّمة طمسن، في كتابه »الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ) «: »جرى تقديم - القرن العاشر ق.م - بوصفه العصر الذهبي لإسرائيل وعاصمتها في أورشليم. كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتحدة التي تضم السلطة السياسية لشاول وداود وسليمان وتسيطر على الجسر البري الضخم من النيل إلى الفرات. إضافة إلى مفهومها عن الهيكل الذي بناه سليمان بوصفه مركزاً لعبادة يهوه. تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي. إننا نعرفها فقط كقصة، وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية، أو أنه كان يقصد منها أن تكون كذلك. ولا يتوافر دليل على وجود مملكة متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أي قوة سياسية موحدة متماسكة، هيمنت على فلسطين الغربية، ناهيك عن إمبراطورية بالحجم الذي تصفه الحكايات الأسطورية. ولا يتوافر أي دليل على وجود ملوك يدعون شاول أو داود أو سليمان؛ ولا نملك دليلاً على وجود هيكل في أورشليم في هذه الفترة المبكرة. ما نعرفه عن إسرائيل ويهوذا القرن العاشر لا يسمح لنا بتفسير انعدام الدليل هذا بوصفه فجوة في معرفتنا ومعلوماتنا حول الماضي، أو مجرد نتيجة للطبيعة العرضية للآثاريات. ما من متسع ولا سياق، لا شيء مصطنع أو أرشيف يشير إلى مثل هذه الحقائق التاريخية في القرن العاشر في فلسطين. لا يمكن للمرء أن يتكلم على دولة بلا سكان. ولا يمكنه أن يتكلم عن عاصمة من دون بلدة. والقصص ليست كافية«.

إذن لا يوجد متسع لمملكة متحدة تاريخية أو لملوك كأولئك الذين جرى تقديمهم في القصص الكتابية لشاول وداود وسليمان. إن الحقبة المبكرة التي تؤطر فيها التراثات حكاياتها هي عالم خيالي من زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبداً .. لم يكن من الممكن أن توجد مملكة لأي شاول أو لأي داود ليكون ملكاً عليها، ببساطة لأنه لم يكن ثمة ما يكفي من الناس. دولة يهوذا لم تكن فقط غير موجودة بعد، بل إننا لا نملك أي دليل على وجود أي قوة سياسية في أي مكان في فلسطين كانت كبيرة بما يكفي، أو متطورة بما يكفي لأن تكون قادرة على توحيد الاقتصادات والأقاليم العديدة لهذه البلاد. في هذا الوقت كانت فلسطين أقل توحداً بكثير مما كانت عليه لأكثر من ألف عام. ويكاد الحديث أن يكون غير ممكن تاريخياً عن أورشليم القرن العاشر. فلو وجدت إطلاقاً، ولم تعثر سنوات من التنقيب على أي أثر لبلدة من القرن العاشر، لكانت ما تزال تبعد قروناً عن امتلاك المقدرة على تحدي أي من (العشرينيات) أو أكثر، من بلدات فلسطين القوية المتمتعة بالحكم الذاتي.

 إن الصورة التقليدية التي تقدمها أسفار العهد القديم عن أورشليم مطلع العصر الحديد الأول، مدينة داود وسليمان، هي صورة مدينة كبيرة جميلة، ذات تحصينات وقصور ومخازن، ومعبد رائع الصنعة. وفي المقابل، فإن مؤلفات صدرت حديثاً لـ طمسن، وديفيد جميسون درايك، تري أن أورشليم القرن العاشر قبل الميلاد، لم تكن أكثر من بلده صغيرة لعبت دور السوق المحلى للمنطقة. إن البقايا الأثرية التي اكتُشفت حتى الآن لتدل على أن أورشليم كانت خلال القرن العاشر والقرن التاسع قبل الميلاد بلدة متواضعة تشغلها بصورة رئيسية الأبنية الإدارية، أما مساحتها فلم تزد عن 30 أكراً، ولم يسكن فيها أكثر من 2000 نسمة. أي أنه في زمن ما من القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد جرى تشييد بلدة جديدة تحتوى على أبنية عامة ولكن من دون منطقة سكنية واسعة. ونحن هنا نصف هذه البلدة بالجديدة لأن بلدة ـ عصر البرونز الوسيط لم تكن قائمة خلال عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الأول. ومن المستبعد أن هذه البلدة كانت عاصمة لدولة كبرى كتلك الموصوفة في النص التوراتي، مملكة إسرائيل الموحدة.

يقول فنكلشتاين، وسلبرمان: »وكما رأينا، فإنه لا وجود لشواهد أركيولوجية مقنعة على وجود مملكة تاريخية موحدة اشتملت على جميع أراضي إسرائيل -فلسطين-، وكانت عاصمتها في أورشليم«.

في استعراض غبريل باركاي، لآثار فترة العصر الحديدي الثاني يتوصل إلى الاستنتاج الذي يقول: »إن التحديد الدقيق لتاريخ طبقات التوطين ومجموعات اللقى العائدة للقرنين العاشر والتاسع قبل التاريخ الشائع محفوف بالمصاعب«. كما يضطر لأن يستنتج أن »فكرة المجد« التي تنبثق من الروايات الكتابية لا تتطابق مع »الواقع الذي تعكسه اللقى الأثرية«.

لنتوقَّف هنا قليلاً، لدراسةِ أبعاد بيت الرَّب (الهيكل السليماني المزعوم). وإذا علِمنا أن الذراع "الإسرائيلي" القديم، يساوي 52 سم، فإن طولَ المعبد، يُصبح 31.5 متراً، وعرضَهُ 10.5 متراً، وارتفاعه 15.5 متراً. غنيْ عن القول، أن التفاصيل الوارِدة، في الكِتاب المُسمّى بالمُقدَّس، تتَّسِم بالحماقة، والمبالَغَة. ولن يلبث هذا الوصف المدعو بالإلهي، أن يتلاشى كالثلجِ، تحت أشعة الشمس، إذا ما خَضع لنقدٍ يتمتَّع بهذا القدر من الجِدِّيَة، أو ذاك. لقد عَمل في بناءِ المعبد 183.300 عامِل، ما عدا الحجّارينَ، والعمال الآخرين، الذين يظهرونَ فيما بعد. وطول المعبد ليس أكثر من 31.5 متراً، وعرضه 10.5 متراً. وقد صَرف هؤلاء البناؤون، سبع سنوات، على بناءِ مبنى مؤلَّف من ثلاثة غُرَف، ويشغَل مساحة لا تزيد على 325 متراً مربعاً. إنها أرقام تجعلُنا نُصاب بالذهول، إذا ما كانت لدينا فكرة بدائية جداً عن أعمال البناء. فهل كان عمّال سليمان كسالى، إلى هذا الحدِ؟! ومع ذلك فإن أبعاد البناء، التي يذكرها سِفر المُلوك الأول، لا تتوافق مع تلك التي يذكرها سِفر أَخْبَارِ الأَيَّامِ الثَّانِي ( 3: 3-4 )؛ حيث جاء بِهِ: "الطُّولُ بِالذِّرَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ الأَوَّلِ، سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَالْعَرْضُ عِشْرُون ذِرَاعًا. وَالرِّواقُ الَّذِي قُدَّامَ الطُّولِ، حَسَبَ عَرْضِ الْبَيْتِ، عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَارْتِفَاعُهُ مِئَةٌ وَعِشْرُونَ". ويكفي وجود مثل هذا الاختلاف في كِتابٍ، يُزعَم أنه "مقدَّس" ليخلق لدينا الشك، هذا إذا لم يكن النَص كلّه مجرَّد هراء، لا طائلة منهُ. أَضِف إلى هذا، أن وصف البِناء الداخلي ،يُثير مزيداً من السخريَّة، عدا أن الطابق السفلي أَضيق من العلوي، بمترٍ كامل، وهذا بحدِ ذاتِهِ، أمر مُذهِل! وتلك النوافذ الجانبيَّة، الواسعة من الداخل، والضيِّقة من الخارج، فيا لَهُ من اختلاق واسِع؛ رَحِب!

في الختام أقول للحاخام رافي بيريتس؛ ليس في آثارِ بلادِنا فلسطين كلّها، أيَّة إشارة، إلى وجودِ مثل هذا الهيكل المزعوم، وهذا أمر معروف تماماً لدي أهل الاختصاص، من علماءِ الآثار، الذين طالما حاولوا العثور على أثرٍ واحِد، في موقع الحرم الشريف بالقدس، حيث كان يقوم هيكل هيرودس الفلسطيني، فلم يفلحوا، ولن يفلحوا، لأبسطِ الأسباب؛ وهو أن سليمان لم يُملَّك يوماً على بلادِنا فلسطين؛ بل وليس هناك أقل دليل على أنه وَطِئ أرضها، في زمانِهِ. وأعودُ لطرحِ هذه المُعضِلَة، على أهلِ الاختصاص؛ لماذا فَشلت جميع المساعين للبحث عن دليل أثري واحد، يُثبِت وجود هيكل سليمان المزعومن أسفل الحرم الشريف بالقدس، وبالتحديد تحت المسجد الأقصى؟! وباعتبار أنَّنا نعثُر، في بلادنا فلسطين، عامةً، على آثارٍ من العصورِ الحجريَّة القديمة، تعودُ إلى نحو مليون وسبعمائة وخمسون ألف سنة خَلَت، ونعثر في القدسِ على آثارٍ، تعودُ إلى اثني عشر ألف سنة خَلَت... فإننا نتعجَّب من عدمِ وجود أَدِلَّة أثريَّة، على وجودِهم، وهيكلهم المزعوم.